حبر قلم سعد الله ونوس الحر
شخوص واقفون على خشبة، يتحركون، يجلسون، يتكلمون يصرخون، هذا هو فن
المسرح. أتى مع زمن الاستعمار ومع قدوم المستشرقين وتعلمهم اللغة العربية، فإنه فن
أدبي جديد. ومع أن الفن مستجد، برع العديد من أعمدة الأدب العربي في استخدامه في
كتابتهم وخصصوا مكانة كبيرة له وبالأخص مسرح يسمى التسييس، كالكاتب الشهير توفيق
الحكيم، ولينين الرملي، وأبرزهم سعد الله ونوس. ومن أهم المسرحيات السياسية في
اللغة العربية، مسرحية "رأس المملوك الجابر" لحاكم الأمل سعد الله ونوس.
فإن مسرحية" رأس المملوك جابر" التي تمتع القارئ أو
المشاهد بقضاياها وحبكتها الفريدة من نوعها. فتدور الأحداث في مقهى دمشقي ويظهر
حوار من قبل الجالسين في المقهى عن الإقتصاد والساسة والمجتمع السيء الذين يعيشون
به، مما كانت سببه الحكومة الديكتاتورية. ولكي يروح الشعب عن مشاكله ينتظروا
الحكواتي ليسرد لهم قصة الظاهر بيبرس المملوكي، لكن لا يقبل خوفًا من أن ينسوا
الحياة التي يعيشونها. ويقرر سرد قصة من العصر العباسي، عن بغداد وخليفة ظالم
ووزيره، وعن طمع يراود الوزير، والذي يثور على القصر وتدور الحرب بينه والخليفة،
ويقرر الإستعداد للحرب. وتظهر شخصيات جديدة، كمساعد الوزير جابر الذي قرر أن ينتهز
فرصة الصراع الذي حصل بين الخليفة والوزير في الاعتلاء على العرش، لكنه يضحي أنه لم
يستطع ودفع ثمن حياته. أما الوزير الذي ظل على موقفه قررا التحالف مع قوات خارجية،
مع ملك العجم وجيشه ليشن الهجوم على جيش الخليفة. حينها ينتصرا ويقتلا الخليفة.
لكن تنتهي هنا حبكة ويعود بنا ونوس إلى مقهى دمشق مظهرًا لنا رفض الزبائن مرة أخرى
على القصة الدامية التي حكيت، ومطالبتهم من الحكواتي سرد قصة الظاهر بيبرس.
وهنا ظهرت قضية المثقف السلبي، المثقف الواعي والمدرك الذي لا يكترث
في توعية الناس وإما أن يكون صامت وساكن ولا يغير أي شيء أو أن يكون انتهازي.
وبالطبع كل أصناف وألوان المثقفين لمعوا وبرزوا في السلطة الفاسدة. وظهر هنا جابر،
على أنه المثقف السلبي الإنتهازي الذي قرر أن يستغل الفرصة في الحكم والذي أرسل
رسالة على رأسه محاولة للإعتلاء على العرش. وظهر المثقف السلبي أنه الواقع،
باستخدم هنا ونوس أسلوب الرمزية لكي يسلط الضوء على الحياة المليئة والمحيطة
بالمثقفين السلبيين الانتهازيين كجابر.
ولم يكن الضوء مسلط على جابر بغداد فقط بل على زبائن مقهى دمشق. فقد
مثل كل زبون شعب بغداد بأكمله بخوفهم ومعاناتهم نمن السلطة الفاسدة والديكتاتورية،
وأرادوا أن يعيشوا الوهم والخيال عوضًا عن الحقيقة والصراحة المريرة، مما لم يرضي
فعلهم للحكواتي، على أنه خبير وحكيم في الآن ذاته. ووصفت هنا شخصياتهم أجمع على
أنهم كسوليين وخموليين ويتهربون من الواقع، وأنهم يعيشون للطعام والمأكل كالدواب
تمامًا.
وبسبب الشخصيات ظهر صراع خارجي، صراع بين الخليفة والوزير، قام حول
السلطة، فإن الجهة الأولى الخليفة الذي قرر القضاء على وزيره وتحطيمه وإكمال
مسيرته الظالمة، وبالطبع الوزير الجهة الثانية، التي قررت إسقاط الخليفة
والاستيلاء على الحكم معاونتًا من قبل الملك العجم. وإنتهى الصراع الدامي بينهما
بخسارة الخليفة وانتصار الوزير بالمساعدة من جيش أعجمي. وبالطبع كما ذكر من قبل
الصراع هو الواقع في حياتنا الحقيقية وسببه الأول والأخير الطمع في السلطة والجلوس
على العرش.
أخيرًا، ومن وجهة نظري لم تمثل المسرحية من قبل شخصيات على خشبة
المسرح فقط بل مثلت بالدول العربية أجمع على خشبة الحرب. وفلسطين بأكملها كانت
الشخصيات. فما حدث وما سيحدث في فلسطين تمامًا كما حصل في بغداد المسرحية، ففلسطين
الخليفة، والصهاينة الوزير، والقادة جابر، وما كانت بريطانيا إلّا ملك العجم،
والأمة العربية منصور، والفلسطينيين ذاتهم شعب بغداد الحبكة المهمشين. فإن الصراع
بين الخليفة والوزير كان صراع الأرض. وبريطانيا واستغلالها لحال الشعب أجمع إما من
الجهل أو الفقر أو البساطة. فإن الدولة التي كانت تدعى "فلسطين" من قبل،
احتلها ملك العجم، وما أصبحت إلّا له وللوزير تحت اسم "إسرائيل". وما
لبثت فلسطين إلى النهاية المأساوية وحيدة بلا أمل، والأمة العربية كمنصور الصامت
الذي لم يوّعي ولم يكترث بالموضوع أبدًا حتى. حينها نتسائل بكل إستعجاب، إذ كان
كاتب المسرحية سعدالله ونوس فمن كان كاتب مسرحيتنا هنا؟
Comments
Post a Comment